بعد مرور 48 عامًا على اغتيال الزعيم الدرزي اللبناني كمال جنبلاط، عادت القضية إلى الواجهة من جديد مع اعتقال اللواء السوري إبراهيم حويجة، المتهم بالإشراف على عملية الاغتيال. أثار هذا التطور السياسي والأمني موجة واسعة من ردود الفعل في لبنان وسوريا، خاصة مع اقتراب الذكرى السنوية لرحيل جنبلاط في 16 مارس 1977. فماذا يعني هذا الاعتقال في السياق السياسي الحالي؟ وما تأثيره على العلاقات اللبنانية السورية؟
اعتقال إبراهيم حويجة: الحدث الذي أشعل الجدل
أعلنت السلطات السورية، يوم الخميس، عن اعتقال اللواء المتقاعد إبراهيم حويجة، رئيس المخابرات الجوية السابق في سوريا، وذلك بعد سنوات طويلة من الاتهامات بضلوعه في عمليات اغتيال بارزة، كان أبرزها تصفية كمال جنبلاط.
ووفقًا لوكالة الأنباء السورية "سانا"، فإن حويجة اعتقل في مدينة جبلة، حيث صرّح مصدر في إدارة الأمن العام بأن هذا الضابط السابق متهم بالإشراف على العديد من عمليات الاغتيال السياسية خلال حقبة الرئيس الراحل حافظ الأسد، ومن بينها عملية اغتيال جنبلاط الأب.
هذا الإعلان جاء بمثابة مفاجأة غير متوقعة، إذ لم يكن هناك أي مؤشرات سابقة على نية النظام السوري فتح ملفات قديمة مرتبطة بتلك الفترة الحساسة من تاريخ لبنان وسوريا.
وليد جنبلاط يعلّق على اعتقال قاتل والده
لم يتأخر وليد جنبلاط، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق، في الرد على هذا الحدث، حيث نشر عبر حسابه على منصة "إكس" (تويتر سابقًا) خبر اعتقال إبراهيم حويجة، وأرفقه بتعليق مقتضب لكنه معبر: "الله أكبر".
يأتي هذا التعليق بعد سنوات طويلة من اتهام جنبلاط الابن للنظام السوري بالوقوف وراء اغتيال والده، وهي تهمة لم ينفها النظام السوري بشكل قاطع طوال العقود الماضية، لكنه لم يعترف بها رسميًا أيضًا.
كمال جنبلاط: من هو الزعيم الذي أرعب خصومه؟
يُعد كمال جنبلاط من أبرز الشخصيات السياسية والفكرية في تاريخ لبنان الحديث، فقد جمع بين العمل السياسي والنضال الاجتماعي والفكر الفلسفي. كان مؤسس الحزب التقدمي الاشتراكي عام 1949، وسعى إلى إرساء مبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة بين الطوائف اللبنانية، كما كان من أشد المدافعين عن القضية الفلسطينية.
نشأته ومسيرته السياسية
ولد كمال جنبلاط في 6 ديسمبر 1917 في بلدة المختارة بمنطقة الشوف اللبنانية، وهي المعقل التقليدي لعائلته الدرزية العريقة. تلقى تعليمه في معهد عينطورة، ثم درس القانون والفلسفة في جامعة السوربون بفرنسا.
عقب وفاة ابن عمه حكمت جنبلاط، دخل كمال المعترك السياسي عام 1943، وانتخب نائبًا في البرلمان اللبناني، حيث بدأ مسيرته النضالية للدفاع عن حقوق الفقراء والمهمشين. كان من دعاة العلمنة والديمقراطية، وسعى إلى كسر الطائفية السياسية التي كانت مسيطرة على لبنان آنذاك.
في عام 1952، لعب دورًا بارزًا في الإطاحة بالرئيس بشارة الخوري، ثم دعم ثورة 1958 ضد الرئيس كميل شمعون، حيث وقف إلى جانب التيار القومي العربي بقيادة الرئيس المصري جمال عبد الناصر.
علاقته المتوترة مع النظام السوري
مع دخول الجيش السوري إلى لبنان عام 1976، تزايدت الخلافات بين كمال جنبلاط والنظام السوري بقيادة حافظ الأسد. كان جنبلاط يرى أن الوجود العسكري السوري في لبنان يهدف إلى السيطرة على القرار اللبناني، بينما زعمت دمشق أنها دخلت لبنان لحماية السلم الأهلي ومنع الحرب الأهلية من التوسع.
في ذروة هذه التوترات، وتحديدًا يوم 16 مارس 1977، تم اغتيال كمال جنبلاط في منطقة الشوف، حيث أطلق مسلحون النار عليه أثناء وجوده في سيارته، مما أدى إلى مقتله على الفور.
اغتيال جنبلاط: هل كان قرارًا سورياً؟
ظل اغتيال كمال جنبلاط لغزًا سياسيًا كبيرًا لسنوات طويلة، حيث وُجهت أصابع الاتهام إلى النظام السوري. اعتبر كثيرون أن اغتياله كان رسالة واضحة إلى جميع القوى اللبنانية التي تعارض النفوذ السوري.
وبحسب العديد من التقارير، كان جنبلاط يشكل تهديدًا كبيرًا لمصالح دمشق في لبنان، خاصة مع دوره في دعم التيارات المناهضة للوجود العسكري السوري، وهو ما جعل قرار تصفيته جزءًا من استراتيجية النظام السوري لضمان الهيمنة السياسية في لبنان.
تداعيات الاعتقال على الساحة السياسية اللبنانية
يطرح اعتقال اللواء إبراهيم حويجة أسئلة كثيرة حول أسبابه وتوقيته، فهل هو جزء من تصفية حسابات داخل النظام السوري؟ أم أنه محاولة لفتح ملفات الماضي في إطار تغييرات سياسية تجري داخل سوريا؟
في لبنان، من المتوقع أن يثير هذا الحدث جدلًا واسعًا، خاصة بين القوى السياسية التي عانت من نفوذ النظام السوري خلال العقود الماضية. فبينما سيراه البعض خطوة إيجابية تجاه كشف حقيقة اغتيال جنبلاط، سيعتبره آخرون مجرد تحرك سياسي لا يغير من الواقع شيئًا.
هل يفتح الاعتقال الباب أمام كشف المزيد من الحقائق؟
يُعيد هذا الاعتقال إلى الأذهان العديد من الاغتيالات السياسية التي وقعت خلال العقود الماضية، مثل اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005، واغتيال شخصيات سياسية أخرى معارضة للنفوذ السوري في لبنان.
لكن يبقى السؤال الأهم: هل سيكون اعتقال حويجة خطوة نحو كشف الحقائق، أم أنه مجرد تحرك مؤقت لن يؤدي إلى أي نتائج فعلية؟
ختامًا: ما بين الحقيقة والعدالة
لا شك أن اعتقال إبراهيم حويجة يمثل لحظة فارقة في تاريخ القضية، لكنه لا يعني بالضرورة أن العدالة ستتحقق. فملفات الاغتيالات السياسية في لبنان لا تزال معقدة، والعديد من الجرائم لم يتم الكشف عن منفذيها الحقيقيين حتى اليوم.
يبقى الأمل معقودًا على أن يكون هذا الاعتقال بداية لكشف المزيد من الحقائق، وليس مجرد خطوة سياسية مؤقتة في لعبة المصالح الإقليمية. فهل نشهد في الأيام القادمة تطورات جديدة تكشف مزيدًا من خفايا هذا الملف الشائك؟